الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
هذا المكان شرف يطلّ من غربيه على راشدة ومن قبلّيه على بركة الحبش فيحسبه من رآه من جهة راشدة جبلًا وهو من شرقيه سهل يتوصل إليه من القرافة بغير ارتقاء ولا صعود وهو محاذِ للشرف الذي كان من جملة العسكر والشرف الذي يعرف اليوم بالكبش وكان يقال له قديمًا: الجرف ثم عرف بالرصد من أجل أنّ الأفضل أبا القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ أقام فوقه كرة لرصد الكواكب فعرف من حينئذٍ بالرصد. قال في كتاب عمل الرصد: وحمل إلى الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر من الشام تقاويم لما يستأنف من السنين لاستقبال سنة خمسمائة من سني الهجرة قيل: مائة تقويم أو نحوها وكان منجمو الحضرة يومئذٍ ابن الحلبيّ وابن الهيثمي وسهلون وغيرهم يطلق لهم الجاري في كل شهر والرسوم والكسوة على عمل التقويم في كل سنة وكان كل منهم يجتهد في حسابه وما تصل قدرته إليه فإذا كان في غرّة السنة حمل كلّ منهم تقويمه فيقابل بينها وبين التقويمات المحضرة من الشام فيوجد بينها اختلاف كثير فأنكر ذلك فلما كان غرة ثلاث عشرة وخمسمائة عند إحضاء التقاويم على العادة جمع المنجمين والحساب وأهل العلم وسألهم عن السبب في الخلف بين التقاويم. فقالوا: الشاميّ يحسب ويعمل على رأي الزيج المهجور المأمونيّ ونحن نعمل على رأي الزيج الحاكميّ لقرب عهده وبين المتقدّم والمتأخر تفاوت وخلف وقد أجمع القدماء أن القريب العهد أصح من المتقدّم لتنقل الكواكب وتغير الحساب وتحدّثوا في معنى ذلك بما هو مذكور في موضعه وأشاروا عليه بعمل رصد مستجدّ يُصحح به الحساب ويخرج به المعور والتفاوت وتحصل به المنفعة العظيمة والفائدة الجليلة والسمعة الشريفة والذكر الباقي فقال: من يتولى ذلك فقال صاحب دسته ومشيره الشيخ الأجل أبو الحسن بن أبي أسامة: هذا القاضي ابن أبي العيش الطرابلسيّ المهندس العالم الفاضل وكان ابن أبي العيش صهره زوج ابنته وهو شيخ كبير السنّ والقدر كثير المال وساعده على ذلك القائد أبو عبد الله الذي تقلد الوزارة بعد الأفضل ودير بالمأمون بن البطائحيّ فاستصوب الأفضل ذلك وقال: مُروه يهتم بذلك ويستدعي ما يحتاج إليه فكان أوّل ما بدأ به لما حصل ذلك أن مدح نفسه وكان الأفضل غيورا على كل شيء أشد ما عليه من يفتخر أو يلبس ثيابًا مذكورة ثم قال: هذه الآلات عظيمة وخطرها جسيم ولا كلّ أحد يقوم عليها ولا يحسنها وأكثر الكلام والتوسعة وقال: يحتاج أنّ الذي يتولى ذلك يعتمد معه الإنعام والإكرام لتطيب نفسه للمباشرة وينشرح صدره ويقدح خاطره لما يعمل في حقه فضجر الأفضل من ذلك وقال: لقد أكثر في مدح نفسه ولدده وما يعاملنا بعد لا حاجة إلى معاملته فأشار القائد بن البطالحيّ وقال: هنا من يبلغ الغرض بأسهل مأخذ وأقرب وقت وأسرعه وألطف معنى أبو سعيد بن قرقة الطبيب متولي خزائن السلاح والسروج والصناعات وغير ذلك فأحضره للوقت فاتفق له من الحديث الحسن السهل وما سبب عمل الآلات ومن ابتدأها من الأول. وذكر القدماء في العلم: ومن رصد منهم واحدًا واحدًا إلى آخرهم شرحًا مستوفيًا كأنه يحفظه ظاهرًا أو يقرأه من كتاب فأعجب الأفضل والحاضرين وقال: أيّ شيء تحتاج فقال: ما أحتاج كبير أمر والأمور سهلة وكلّ ما أحتاجه في خزائن السلطان خلد الله ملكه النحاس والرصاص والآلات وكلّ ما أحتاج أستدعيه أوّلًا أوّلًا إلا لنفقات وأجرة الصناع فيتولاها غيري فأعجب به. وقال: يطلق له جار لنفسه فقال: أنا مستخدم في عدّة خدم فجواريّ تكفيني فأنا مملوك الدولة ما أحتاج إلى جار وإذا بلغت الغرض وأنهيت الأشغال فهو المقصود. وكان قيل للأفضل هذا الرصد يحتاج إلى أموال عظيمة فقال: كم تقول يحتاج إليه. فقال: ما ينفق عليه إلا مثل ما ينفق على مسجد أو مستنظر فرجع يكرّر عليه القول فقال: هاتوا ورقة فكتب فيها المملوك يقبل الأرض وينهي دعت الحاجة إلى خروج الأمر العالي إلى دار الوكالة بإطلاق مائتي قنطار من النحاس الثجر وثمانين قنطارًا من النحاس القضيب الأندلسيّ وأربعين قنطارًا من النحاس الأحمر ومن الرصاص ألف قنطار ومن الحطب ومن الحديد والفولاذ من الصناعة ما لعله يحتاج إليه ومن الأخشاب ومن النفقة مائة دينار على يد شاهد ينفق عليه فإذا فرغت أستدعي غيرها وأختار موضعًا يصلح الرصد فيه ويكون العمل والصناعة فيه ومباشرة السلطان فيما يتوقف عليه وما يستأمر فيه فاستصوب الأفضل جميع ذلك وأراد أن يخلع عليه. فقال القائد: هذا فيما بعد إذا شوهدت أعماله فخدم من أوّل الحال إلى آخرها ولم يحصل له الدرهم الفرد لأنه كان يستحيي أن يطلب وهو مستخدم عندهم وكانوا بأجمعهم يؤملون طول المدّة والبقاء فقتل الأفضل ثاني سنة وتغيرت الأحوال ثم إنهم اختاروا للرصد مسجد التنور فوق المقطم فوجدوه بعيدًا عن الحوائج فأجمعوا على سطح الحرف بالمسجد المعروف: بالفيلة الكبير. وكان قد صرف على المسجد خاصة ستة آلاف دينار فحفروا في مسجد الفيلة نفرًا في الجبل مكان الصهريج الآن فعمل فيه قالب الحلقة الكبيرة وقطرها عشرة أذرع ودورها ثلاثون ذراعًا وهندموه وحرّروه أيامًا وعمل حوله عشر هرج على كل هرجة منفاخان وفي كل هرجة: أحد عشر قنطارًا نحاسًا وأقلّ وأكثر والجميع مائة قنطار وكسر قسموها على الهرج وطرح فيها النار من العصر ونفخوا إلى الثانية من النهار وحضر الأفضل بكرة وجلس على كرسيّ فلما تهيأت الهرج ودارت أمر الأفضل بفتحها وقد وقف على كل هرجة رجل وأمروا بفتحها في لحظة ففتحت وسال النحاس كالماء إلى القالب وكان قد بقي فيه بعض النداوة فلما استقرّ به النحاس بحرارته تقعقع المكان الندي فلم تتمّ الحلقة ولما بردت وكشف عنها إذ هي تامة ما خلا المكان النديّ فضجر الأفضل وضاق صدره ورمي الصناع بكيس فيه ألف درهم وغضب وركب فلاطفه ابن قرقة وقال: مثل هذه الآلة العظيمة التي ما سمع قط بمثلها لو أعيد سبكها عشر مرّات حتى تصح ما كان كثيرًا فقال له الأفضل: اهتم في إعادتها فسبكت وصحت ولم يحضر الأفضل في المرّة الثانية ففرح بصحتها وعملت ورفعت إلى سطح مسجد الفيلة وأحضر لها جميع صناع النحاس وعمل لها بركار خشب من السنديان وهو بركار عجيب وبنى في وسط الحلقة مسطبة حجارة منقبة لرجل البركار وهو قائم مثل عروس الطاحون وفيه ساعد مثل ناف الطاحون وقد لبس بالحديد والجميع سنديان جيد وطرف الساعد مهيأ لعدة فنون تارة لتصحيح وجه الحلقة وتارة لتعديل الأجناب وتارة للخطوط والحزوز وأقام في التصحيح فيها وأخذ زوائدها بالمبارد مدّة طويلة وجماعة الصناع والمهندسين وأرباب هذا العلم حاضرون واستدعى لهم خيمة عظيمة ضربت على الجميع وعقد تحت الحلقة أقباء وثيقة وأرادوا قيامها على سطح مسجد الفيلة فلم يتهيأ لهم فإنهم وجدوا المشرق لأوّل بروز الشمس مسدودًا فاتفقوا على نقلها إلى المسجد الجيوشيّ المجاور الأنطاكي المعروف أيضًا بالرصد وكان الأفضل بناه ألطف من جامع الفيلة ولم يكمل. فلما صار برسم الرصد كمل فحضر الأفضل في نقل الحلقة من جامع الفيلة إلى المسجد الجيوشي وقد أحضرت الصواري الطوال العظام والسرياقات والمنحاتات من الإسكندرية وغيرها وجمعت الأسطولية ورجال السودان وبعض أصحاب الركاب والجند حتى أدلوه وحملوه على العجل إلى مسجد الرصد الجيوشيّ وثاني يوم حضروا بأجمعهم حتى رفعوه إلى السطح وكملوه وأقاموا الحلقة وجعلوا تحت أكتافها عمودين من رخام سبكوهما بالرصاص من أسفلهما وأعلاهما حتى لا يرتخي ثقل النحاس وجعل في الوسط عمود رخام وبأعلاه قطب العضادة مسبوك بالنحاس الكثير لتدور عليه العضادة وعملت من نحاس فما تمارست ولا دارت فعملوها من خشب ساج وقطبها وأطرافها من نحاس صفائح ليخف الدوران ثم رصدوا بها الشمس بعد كلفة وكانت الحلقة ترخي الدرجة والدقائق كل وقت للثقل. فعمل عمود من نحاس فوق عمود الرخام ليمسك رخوها وغلبوا بعد ذلك فكانت تختلف لشدة ما كانوا يحرّرونها بالشواقيل وعضادة الخشب وتردّد إليها الأفضل مع كبر سنه وهو يرتعش والقائد يحمله إلى فوق ويقعد زمانًا من التعب لا يتكلّم ويده ترتعش فرصدوا قدّامه وفي خلال ذلك قُتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة وقيل للأفضل عن ابن قرقة: إنه أسرف في كبر الحلقة وعظم مقدارها فقال له الأفضل: لو اختصرت منها كان أهون فقال: وحق نعمتك لو أمكنني أن أعمل حلقة تكون رجلها الواحدة على الأهرام والأخرى على التنور فعلت فكلما كبرت الآلة صح التحرير وأين هذا في العالم العلويّ ثم أكثروا عليه فعمل حلقة دونها في الموضع المهندم بالطوب الأحمر تحت المسجد الجيوشي كان قطرها أقل من سبعة أذرع ودورها نحو أحد وعشرين ذراعًا. فلما كملت قُتل الأفضل ولم ينفق من مال السلطان في الأجرة والمؤن وما لا بدّ منه سوى نحو مائة وستين دينارًا فلما تمت الوزارة للمأمون البطالحيّ أحب أن يكملها ويقال له: الرصد المأموني المصحح كما قيل للأوّل: الرصد المأموني الممتحن فأخرج الأمر بنقل الرصد إلى باب النصر بالقاهرة فنقل على الطريقة الأولى بالعتالين والأسطولية وطوائف الرجال وكان يدفع لهم كل يوم برسم الغداء جملة دراهم فلما صار فوق العجل مضوا به على الخندق من وراء الفتح على المشاهد إلى مسجد الذخيرة من ظاهر القاهرة وتعبوا في دخوله من باب النصر تعبًا عظيمًا لخوفهم أن يصدم فيتغير فنصبوا الصواري على عقد باب النصر من داخل الباب ثم نقلوه من السطح الكبير إلى السطح الفوقانيّ وأوقفوا له العمد كما تقدّم ذكره ورصدوا بالحلقة الكبرى كما رصدوا بها على سطح الجرف فصح لهم ما أرادوا من حال الشمس فقط ثم اهتموا بعمل ذات حلق يكون قطرها خمسة أذرع وسبكت في فندق بالعطوفية من القاهرة وكان الأمر فيها سهلًا عندما لحقهم من العناء العظيم في الحلقة الكبيرة والحلقة الوسطى وتجرّد المأمون لعملها والحث فيها وكان ابن قرقة يحضر كل يوم دفعتين ويحضر أبو جعفر بن جسنداي وأبو البركات بن أبي الليث صاحب الديوان وبيده الحل والعقد فقال له المأمون: اطلع إليهم كل يوم وأيّ شيء طلبوه وقع لهم به من غير مؤامرة وكان قصده ما أطمعوه فيه من أن يقال: الرصد المأمونيّ المصحح فلو أراد الله أن يبقي المأمون قليلًا كان كمل جميع رصد الكواكب لكنه قبض عليه ليلة السبت ثالث شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة وكان من جملة ما عدّد من ذنوبه عمل الرصد المذكور والاجتهاد فيه وقيل: أطمعته نفسه في الخلافة بكونه سماه الرصد المأمونيّ ونسبه إلى نفسه ولم ينسبه إلى الخليفة الآمر بأحكام اللّه. وأما العامة والغوغاء فكانوا يقولون: أرادوا أن يخاطبوا زحل وأرادوا أن يعلموا الغيب وقال آخرون منهم: عمل هذا للسحر ونحو ذلك من الشناعات فلما قُبض على المأمون بطل وأنكر الخليفة على عمله فلم يجسر أحد أن يذكره وأمر فكسر وحمل إلى المناخات وهرب المستخدمون ومن كان فيه من الخاص وكان فيه من المهندسين برسم خدمته وملازمته في كل يوم بحيث لا يتأخر منهم أحد الشيخ أبو جعفر بن حسنداي والقاضي ابن أبي العيش والخطيب أبو الحسن عليّ بن سليمان بن أيوب والشيخ أبو النجا بن سند الساعاتي الإسكندرانيّ المهندس وأبو محمد عبد الكريم الصقلي المهندس وغيرهم من الحساب والمنجمين كابن الحلبيّ وابن الهيثمي وأبي نصر تلميذ سهلون وابن دياب والقلعيّ وجماعة يحضرون كل يوم إلى ضحوة النهار فيحضر صاحب الديوان ابن أبي الليث وكان ابن حسنداي ربما تأخر في بعض الأيام فإنه كان امرأ عظيمًا صاحب كبرياء وهيبة وفي كل يوم يبعث المأمون من يتفقد الجماعة ويطالعه بمن غاب منهم لأنه كان كثير التفقد للأمور كلها وله غمازون وأصحاب أخبار لا تنام ولا يكاد يفوته شيء من أحوال الخاصة والعامّة بمصر والقاهرة ومن يتحدّث. وجعل في كل بلد من الأعمال من يأتيه بسائر أخبارها. وأنا أدركت هذا الموضع الذي يعرف اليوم: بالرصد حيث جامع الفيلة عامرًا فيه عدّة مساكن ومساجد وبه أناس مقيمون دائمًا وقد خرب ما هناك وصار لا أنيس به وكان الملك الناصر: محمد بن قلاون قد أنشأ فيه سواقي لنقل الماء من أماكن قد حفر لها خليج من البحر بجوار رباط الآثار النبوية فإذا صار الماء في سفح هذا الجرف المسمى بالرصد نقل بسواقي هناك قد أنشئت إلى أن يصير إلى القلعة فمات ولم يكمل ما أراده من ذلك كما ذكر في أخبار قلعة الجبل من هذا الكتاب وما زال موضع هذا الرصد منتزهًا لأهل مصر. ويقال: إنّ المعز لدين اللّه معدًّا لما قدم من بلاد المغرب إلى القاهرة لم يعجبه مكانها. وقال للقائد جوهر: فاتك بناء القاهرة على النيل فهلا كنت بنيتها على الجرف. يعني هذا المكان ويقال: إن اللحم علق بالقاهرة فتغير بعد يوم وليلة وعلق بقلعة الجبل فتغير بعد يومين وليلتين وعلق في موضع الرصد فلم يتغير ثلاثة أيام ولياليها لطيب هوائه ولله در القائل: يا ليلة عاش سروري بها ومات من يحسدنا بالكمد وبت بالمعشوق في المشتهي وبات من يرقبنا بالرصد ذكر مدائن أرض مصر قال ابن سيده: مَدَّن بالمكان: أقام والمدينة: الحصن يبني في أسطحة الأرض مشتق من ذلك والجمع: مدائن ومدن ومن هنا حكم أبو الحسن فيما حكى الفارسيّ عنه: أنَّ مدينة فعيلة وقال العلامة أثير الدين أبو حيان: المدينة معروفة مشتقة من مدن فهي: فعيلة ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها فإنهم قالوا: مدائن بالهمز ولا يحفظ مداين بالياء ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة من دان ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فعل فإنهم قالوا مدن كما قالوا صحف في صحيفة واعلم أن مدائن مصر كثيرة منها ما دثر وجهل اسمه ورسمه ومنها ما عُرف اسمه وبقي رسمه ومنها ما هو عامر. وأوّل مدينة عُرف اسمها في أرض مصر مدينة: أمسوس وقد محا الطوفان رسمها ولها أخبار معروفة وبها كان ملك مصر قبل الطوفان ثم صارت مدينة مصر بعد الطوفان مدينة منف وكان بها ملك القبط والفراعنة إلى أن خربها بخت نصر فلما قدم الإسكندر بن فيليبس المقدونيّ من مملكة الروم عمر مدينة الإسكندرية عمارة جديدة وصارت دار المملكة بمصر إلى أن قدم عمرو بن العاص بجيوش المسلمين وفتح أرض مصر فاختط فسطاط مصر وصارت مدينة مصر إلى أن قدم جوهر القائد من الغرب بعساكر المعز لدين اللّه أبي تميم معدّ وملك مصر واختط القاهرة فصارت دار المملكة بمصر إلى أن زالت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فبنى قلعة الجبل وصارت القاهرة مدينة ممر إلى يومنا هذا. وفي أرض مصر: عدة مدائن ليست دار ملك وهي: مدينة الفيوم ومدينة دلاص ومدينة أهناس ومدينة البهنسا ومدينة القيس ومدينة طلخا ومدينة الأشمونين ومدينة أنصنا ومدينة قوص ومدينة سيوط ومدينة فاو ومدينة أخميم ومدينة البلينا ومدين هوّ ومدينة قنا ومدينة دندرة ومدينة قفط ومدينة الأقصر ومدينة اسنا ومدينة أرمنت ومدينة أدفو وثغر أسوان وأدركناه مدينة هذه مدائن الوجه القبلي. وكان أهل مصر يسمون من سكن من القبط بالصعيد: المريس ومن سكن منهم أسفل الأرض يسمونه: البمبا وفي الوجه البحري مدينة: نوب من الحوف الشرقي بأسفل الأرض ومدينة عين شمس ومدينة أتريب ومدينة تنوا ومن قراها ناحية زنكلون ومدينة نمي ومدينة بسطه ويعرف اليوم موضعها: بتل بسطة ومدينة قربيط ومدينة البتنون ومدينة منوف ومدينة طرّة ومدينة منوف أيضًا ومدينة سخا ومدينة الأوسة وهي: دميرة ومدينة تيدة ومدينة الأفراحون ومن جملة قراها: نشا ومدينة بقيرة ومدينة بنا ومدينة شبراساط ومدينة سمنود ومدينة نوسا ومدينة سبتي ومدينة النجوم وقد غلب على مدينة النجوم: الرمال والسباخ ويعرف اليوم منها: قرية أدكو على ساحل البحر بين إسكندرية ورشيد ومدينة تنيس ومدينة دمياط ومدينة الفرما ومدينة العريش ومدينة صا ومدينة برنوط ومدينة قرطسا ومدينة أخنو ومدينة رشيد ومدينة مريوط ومدينة لوبية ومراقية وليس بعد لوبية ومراقية إلا أرض أنطابلس وهي: بريّة وفي كور القبلة مدينة فاران ومدينة القلزم ومدينة راية ومدينة ايلة ومدينة مدين وأكثر هذه المدائن قد خرب ومنها ما له أخبار معروفة وقد استحدث في الإسلام بعض مدائن وسيأتي من أخبار ذلك إن شاء اللّه ما يكفي. وديار مصر اليوم وجهان: قبليّ وبحريّ جملتهما خمس عشرة ولاية. فالوجه القبليّ أكبرهما وهو تسعة أعمال عمل قوص وهو أجلها ومنه أسوان وكرب قمولة وأسوان حدّ المملكة من الجنوب وعمل أخميم وعمل سيوط وعمل منفلوط وعمل الأشمونين وبها الطحاوية وعمل البهنسا وعمل الفيوم وعمل اطفيح وعمل الجيزة. والوجه البحريّ ستة أعمال: عمل البحيرة وهو متصل البرّ بالإسكندرية وبرقة وعمل الغربية وهي جزيرة واحدة يشتمل عليها ما بين البحرين: بحر دمياط وبحر رشيد والمنوفية ومنها: أبيار التي تسمى: جزيرة بني نصر وعمل قليوب وعمل الشرقية وعمل أشموم طناح ومنها الدقهلية والمرتاحية وهنا موضع ثغر البرلس وثغر رشيد والمنصورة وفي هذا الوجه الإسكندرية ودمياط وهما مدينتان لا عمل لهما. وذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: أن الكوكة وهي: أمّة من أهل أيلة ملكو الأرض وقسموا الصعيد على ثمانين كورة وجعلوه أربعة أقسام وكان عدد مدن مصر الداخلة في كورها ثلاثين مدينة فيها جميع العجائب والكور مثل: أخميم وقفط وقوص والفيوم ويقال: إن مصر بن بيصر قسم الأرض بين أولاده فأعطى ولده أشمون من حدّ بلده إلى رأس البحر إلى دمياط وأعطى ولده أنصنا من حدّ أنصنا إلى الجنادل وأعطى لولده صا: من صا أسفل الأرض إلى الإسكندرية وأعطى لولده منوف وسط الأرض السفلي منف وما حولها وأعطى لولده قفط غربيّ الصعيد إلى الجنادل وأعطى لولده أتريب شرفيّ الأرض إلى البريّة بريّة فاران وأعطى لبناته الثلاثة وهن: الفرما وسريام وبدورة بقاعًا من أرض مصر محدّدة فيما بين إخوتهن. ذكر مدينة أمسوس وعجائبها وملوكها قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب في كتاب أخبار مصر وعجائبها: وكانت مصر القديمة اسمها: أمسوس. وأوّل من ملك أرض مصر نقراوش الجبار بن مصرايم. ومعنى نقراوش: ملك قومه الأوّل ابن مركاييل بن دواييل بن عرياب بن آدم عليه السلام ركب في نيف وسبعين راكبًا من بني عرياب جبابرة كلهم يطلبون موضعًا يقطنون فيه فرارًا من بني أبيهم عندما بغى بعضهم على بعض وتحاسدوا وبغى عليهم بنو قابيل بن آدم فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل فلما رأوا سعة البلد فيه وحسنه أعجبهم فأقاموا فيه وبنوا الأبنية المحكمة وبنى نقراوش: مصر وسماها باسم أبيه: مصرايم ثم تركها وأمر ببناء مدينة سماها: أمسوس. وقال ابن وصيف شاه: وكان قد وقع إليه علم ذلك من العلوم التي تعلمها دواييل من آدم عليه السلام فبنى الأعلام وأقام الأساطين وعمل المصانع واستخرج المعادن ووضع الطلسمات وشق الأنهار وبنى المدائن فكل علم جليل كان في أيدي المصريين إنما هو من فضل علم نقراوش وأصحابه. كان ذلك مرموزًا على الحجارة ففسره قليمون الكاهن الذي ركب مع نوح عليه السلام في السفينة ونقراوش هو الذي بنى مدينة أمسوس وعمل بها عجائب كثيرة منها: طائر يصفر كل يوم عند طلوع الشمس مرّتين وعند غروبها مرّتين فيستدلون بصفيره على ما يكون من الحوادث حتى يتهيأون له. ومنها صنم من حجر أسود في وسط المدينة تجاهه صنم مثله إذا دخل إلى المدينة سارق لا يقدر أن يزول حتى يسلك بينهما فإذا دخل بينهما أطبقا عليه فيؤخذ وعمل صورة من نحاس على منارِ عالٍ لا يزال عليها سحاب يطلع فكل من استمطرها أمطرت عليه ما شاء وعمل عمل حدّ البلاد أصنامًا من نحاس مجوّفة وملأها كبريت أو وكل بها روحانية النار فكانت إذا قصدهم قاصد أرسلت تلك الأصنام من أفواهها نارًا أحرقته وعمل فوق جبل بطرس منارًا يفور بالماء ويسقي ما حوله من المزارع ولم تزل هذه الآثار حتى أزالها الطوفان ويقال: إنه هو الذي أصلح مجرى النيل وكان قبله يتفرّق بين الجبلين وإنه وجه إلى بلاد النوبة جماعة هندسوه وشقوا نهرًا عظيمًا منه بنوا عليه المدن وغرسوا الغروس وأحب أن يعرف مخرج النيل فسار حتى بلغ خلف خط الاستواء ووقف على البحر الأسود الزفتي ورأى النيل يجري على البحر مثل الخيوط حتى يدخل تحت جبل القمر ويخرج منه إلى بطائح. ويقال: إنه هو الذي عمل التماثيل التي هناك وعاد إلى أمسوس وقسم البلاد بين أولاده فجعل لابنه الأكبر واسمه: نقاوش الجانب الغربيّ ولابنه شورب الجانب الشرقيّ وبنى لابنه الأصغر واسمه: مصرايم مدينة برسان وأسكنه فيها وأقام ملكًا على مصر مائة وثمانين سنة ولما مات لطخ جسدهُ بأدوية ماسكة وجعل في تابوت من ذهب وعمل له ناوس مصفح بالذهب ووضع فيه ومعه كنوز وإكسير وأوان من ذهب لا يُحصى ذلك لكثرته وزبروا على الناوس تاريخ موته وأقاموا عليه طلسمًا يمنعه من الحشرات المفسدة. وملك بعده ابنه نقاوش بن نقراوش وكان كأبيه في علم الكهانة والطلسمات وهو أوّل من عمر بمصر هيكلًا وجعل فيه صور الكواكب السبعة وكتب على هيكل كلّ كوكب منافعه ومضاره وألبسها كلها الثياب الفاخرة وأقام لها خدمة وسدنة وخرج من أمسوس مغرّبًا حتى بلغ البحر المحيط وأقام عليه أساطين على رؤوسها أصنام تسرج عيونها في الليل ومضى على بلاد السودان إلى النيل وأمر ببناء حائط على جنب النيل وعمل له أبوابًا يخرج منها الماء وبنى في صحراء الغرب خلف الواحات ثلاث مدن على أساطين مشرفات من حجارة ملوّنة شفافة وفي كل مدينة عدّة خزائن من الحكمة وفي إحداها صنم للشمس على صورة إنسان وجسد طائر من ذهب وعيناه من جوهر أصفر وهو جالس على سرير من مغناطيس وفي يده مصحف العلوم وفي إحداها صنم رأسه رأس إنسان بجسد طائر ومعه صورة امرأة جالسة قد عملت من زئبق معقود لها ذؤابتان في يدها مرآة وعلى رأسها صورة كوكب وقد رفعت المرآة بيديها إلى وجهها وفي إحداها مطهرة فيها سبعة ألوان من سائل يرد إليها ولا يغير بعضها لون بعض وفي بعضها: صورة شيخ جالس قد عمل من الفيروزج وبين يديه صبية جلوس كلهم من عقيق وفي بعضها صورة هرمس يعني عطارد وهو ينظر إلى مائدة بين يديه من نوشادر على قوائم من كبريت أحمر وفي وسطها صحفة من جوهر وجعل فيها صورة عقاب من زبرجد أخضر وعيناه من ياقوت أصفر وبين يديه حية زرقاء من فضة قد لوت ذنبها على رجليه ورفعت رأسها كأنها تنفخ عليه وجعل فيها صفة المرّيخ وهو راكب على فرس وفي يده سيف مسلول من حديد أخضر وجعل فيها عمودًا من جوهر أحمر وعليه قبة من ذهب فيها صورة المشتري وجعل فيها قبلة من آنك على أربعة أعمدة من جزع أزرق وفي سقفها صورة الشمس والقمر متحاذيين في صورة رجل وامرأة يتحادثان وجعل فيها قبة من كبريت أحمر فيها صورة الزهرة على هيئة امرأة ممسكة بضفائرها وتحتها رجل من زبرجد أخضر في يده كتاب فيه علم من علومهم كأنه يقرأ فيه عليها. وجعل في بقية الخزائن من كنوز الأموال والجواهر والحلي وإكسير الصنعة وصنوف الأدوية والسموم القاتلة ما لا يُحصى كثرةً وجعل على باب كل مدينة طلسمًا يمنع من دخولها وأنفذ لها مسارب تحت الأرض ينفذ بعضها إلى بعض طول كل سرب ثلاثة أميال وبنى أيضًا مدينة بأرض مصر اسمها: حلجمة وعمل فيها جنة صفح حيطانها بالجواهر الملوّنة بالذهب وغرس فيها أصناف الأشجار وأجرى تحتها الأنهار وغرس فيها شجرة مولدة تطعم سائر الفواكه وعمل فيها قبة من رخام أحمر على رأسها صنم يدور مع الشمس ووكل بها شياطين إذا خرج أحد من بيته في الليل هلك. وأقام بها أساطين زبر عليها جميع العلوم وصور العقاقير ومنافعها ومضارها وجعل لهذه المدينة مسارب تتصل بمسارب تلك المدن الثلاث بين كل سرب منها وبين هذه المدينة عشرون ميلًا فلم تزل هذه المدائن حتى أفسدها الطوفان ولمَّا مات بعد مائة وتسع سنين من ملكه على مصر جُعل في ناوس مُطلسم ودفن فيه.
|